كُلٌ يدعي وَصلاً بالنَجَف!
السجالُ والمعاركُ السياسية على أشدها في العراق، بين مجاميع مختلفة، إلا أن أكثرها حدة، تلك الخطابات النقدانية من الأحزاب السياسية – المسلحة، لأداء حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وشخصه. فتلك الكيانات، لا توفر مناسبة إلا واتخذتها مطيةً للتحريض ضد الحكومة ورئيسها، في ممارسات وصلت حد الشتيمة والتحريض، خصوصا بعد حادثة إيقاف مجموعة من المنتمين لـ”كتائب حزب الله”، أُطلق سراح غالبيتهم في وقت لاحق، وأُبقي على شخص واحد قيد التحقيق، وهي الخطوة التي رأى فيها “محور المقاومة” تهديداً له.
أزمة الكاريكاتير
وسط هذه الأجواء المشحونة سياسيا، نشرت صحيفة “الشرق الأوسط” يوم الجمعة 3 يوليو الجاري، كاريكاتيراً للرسام أمجد رسمي، تم تداوله بشكل واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وجرى تأويله بطريقة روجت أن رجل الدين الذي يعتمر عمته السوداء، ويقطع الصلة بين السيادة والدولة في العراق، هو المرجع آية الله علي السيستاني، وهو الأمر الذي نفته الصحيفة في بيان لها، في ذات اليوم، قائلة إنها “تلتزم القواعد المهنية في تعاملها مع الدول والأشخاص والمرجعيات”، مؤكدة أن “الرسم لم يقصد به على الإطلاق الإشارة إلى شخص آية الله علي السيستاني، وهو محل احترام وتقدير، ولم يستهدف الإساءة من قريب أو من بعيد إليه أو إلى شخص أو هيئة عراقية، بل قصدت به الإشارة إلى التدخلات الإيرانية في الشأن العراقي”.
من يتابع أعمال أمجد رسمي، يعلم أنه ومنذ سنوات، يستخدم هذا الرمز للدلالة على “إيران”. هذا أولاً. كما أن القارئ المتابع، يدركُ أن الخط التحريري لصحيفة “الشرق الأوسط” لا يتبنى آراء عدائية ذات بُعدٍ طائفي.
لو تأمل المراقب لردود الأفعال التي صاحبت نشر الكاريكاتير، سيعلمُ أن هذه المواقف جاء أغلبها في السياقات التالية:
1. أناسٌ مُقلدون لآية الله السيستاني، وجدوا في الشبهِ بين الرسم وملامح مرجعهم، قُرباً كبيراً، فاعتقدوا أن الصحيفة اساءت له. وهو موقف لا يرتبط بخلفية سياسية لدى هؤلاء المؤمنين، بقدر ما هو ناتج اشتِباهٍ لدى شريحة منهم، أولاً، وثانياً – وهو الأهم- السياق المشحون طائفياً وسياسياً في الخليج، بحيث يتم تأويل كل خطاب أو موقف من زاوية مذهبية غرائزية مشحونة عاطفياً. من هنا تأتي أهمية الأخذ بالدعوات المتكررة لضرورة الفصل بين الموقف السياسي والدين والمذهب، كون هذا التداخل يضرُ بالسلم الأهلي، ويؤججُ الصراعات، ويجعل الصورة ضبابية لدى سوادِ الناس، ويدفعهم نحو انحيازاتٍ خاطئة، ومواقف متعجلة، لا لخبثٍ في سريرتهم، وإنما وقوعهم تحت ضغوط نفسية وذهنية، عزز منها وجود بعض المؤسسات الإعلامية التي تبثُ خطاباً تحريضياً، والحسابات التي تنشط على “السوشال ميديا” وتنشر التكفير والكراهية. باختصار: الأجواء الملبدة بالغيوم السوداء، تجعل الناس تعتقدُ أن العواصف والشر قادم؛ فليس كل فردٍ يمتلك بصيرة زرقاء اليمامة، ليدرك ما وراء تلك السحب!
2. مجموعة من الجمهور، لديهم مواقف مسبقة من السعودية، وإعلامها، وتعتقد أن هذه المؤسسات تعملُ ضد “الشيعة”، وهي مجرد “غرفٍ سوداء”. وهو تصور نمطي، تعميمي، غير علمي، لا يمكن تغييره بسهولة، لأن أصحابه في الغالب إما مؤدلجون، أو منغلقون على محيطهم، أو مروا بتجارب شخصية سيئة مع بعض الجهات الإعلامية، جعلتهم يعممون تجاربهم على الآخرين.
هناك بعض الأصوات التي تبثُ “خطاب الكراهية والتكفير”، وهذا أمرُ طبيعي في كل مجتمع، وهذه الأصوات يجب محاسبتها وفق القانون، إلا أنها جزء من المشهد، ولا تمثلُ المشهد الكلي للمملكة. كما أن السياسة الرسمية للسعودية، والتي تحدث الملك سلمان بن عبد العزيز عنها صراحة وفي أكثر من مناسبة، ترفض أي خطاب تحريضي طائفي، وتؤمن أن احترام الأديان والمذاهب والمعتقدات، ضرورة لحفظ وسلامة المجتمعات كافة.
3. الفريق الثالث، وهو الأكثر نشاطاً، يتمثل في إعلام وأنصار الجهات الحزبية، والمليشيات العسكرية، المناوئة لحكومة رئيس الوزراء العراقي، والتي وجدت في “الكاريكاتير” فرصة للتصويب على السيد مصطفى الكاظمي، وشد العصب المذهبي، والقول إن السعودية التي يريد رئيس الوزراء الانفتاح عليها، لا تحترمكم، وتهين رموزكم الدينية، ولذا، علينا أن نبقى حلفاء لإيران، ونحذر من الرياض وألاعيبها!.
هذا الفريق، لم تَثُر حميته محبة في السيستاني، وإنما تم استخدام اسمه كورقة في صراعهم السياسي، من أجل غايات حزبية.
بناء على مصادر مقربة من بيت المرجع السيستاني، تواصلتُ معها، أوضحت لي أن السيد السيستاني غير معنيٍ بالموضوع، وأنه يؤمن أن على العقل والحكمة أن تسود في مثل هذه الأوقات، بعيدا عن أي إثارة أو تحريض.
خطُ الرياضِ والنجف
العارفون بملف العلاقة بين الرياض والنجف، يعلمون أن هنالك احتراماً متبادلاً، وأن القيادة في السعودية تكنُ تقديراً خاصاً لمرجعية آية الله السيستاني، لكونه أولاً رمزا دينيا لملايين المسلمين حول العالم، ومن ضمنهم مواطنون سعوديون. وثانياً، لمواقف السيستاني الداعمة للاستقرار والأمن في الخليج، ورفضه للعنف والتطرف، وإيمانه بأهمية بناء علاقات صحية بين السعودية والعراق، قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والتعاون الثنائي بين البلدين.
العام 2016، وتحديداً في 19 يونيو، نشرتُ مقالاً في موقع “العربية.نت” الإنجليزي، تحدثت فيه بشيء من التفصيل عن موقف الحكومة السعودية الإيجابي من مرجعية السيستاني، وهو سلوكٌ مستمرٌ حتى الساعة، لأنه نتاجُ قناعةٍ وإيمانٍ بالدبلوماسية المرنة، القائمة على مد الجسور.
سنوياً في موسم الحج، تصلُ بعثة آية الله السيستاني إلى المدنية المنورة، ومكة المكرمة، برئاسة السيد جواد الشهرستاني، الذي يحظى بعناية من الجهات المختصة في الحكومة السعودية. وهذا الاهتمام الذي هو جزء من خدمة حجاج بيت الله الحرام، هو أيضا رسالة تقدير خاصة لشخص الشهرستاني، وللمرجعية التي يُمثلها.